2021/02/11

مسرح الاخوين رحباني

مسرح الاخوين رحباني



الحركة المسرحية في لبنان

ظل المسرح اللبناني في النصف الأول من القرن الماضي بطيئاً وموسمياً وقد غلب عليه الطابع التعليمي الإرشادي كامتداد لأفكار عصر النهضة فظهر ما يسمى "بمسرح المدارس" الذي غلب عليه الطابع التعليمي وكانت نشاطاته تعرض في مسرح الهواة في المدارس اللبنانية كما ظهر إلى جانب مسرح المدارس مسرح الهواة في القرى وبعض النشاطات التي كانت تقدمها الجمعيات في الأندية والأوقاف والساحات، وقد اختلفت هذه المسارح عن مسرح المدينة في أنها ألغت الحدود بين الممثلين والمتفرجين، وكانت كبيرة الشبة بالمسرح الاحتفالي في المواسم والأعياد وقد ظهرت بعض الفرق المحترفة التي كانت تقدم عروضها في مسرح المدينة. (سعيد، 1998)

وظهر في أوائل القرن فرقة "جمعية أحياء التمثيل العربي" ومن أعمالها "فتى الأرز. وقد انضم "عيسى النحاس" لأكثر من فرقة بين العشرينات وأواخر الأربعينات، فشارك في عروض جمعية إحياء التمثيل، وجمعية الاتحاد للتمثيل العربي كما أسس الفرقة الشعبية اللبنانية للمسرح. كما أدار فرقة الاتحاد المسرحي اللبناني حتى عام 1949، وقد ظهر الفنان "محمد شامل" في "جمعية ترقية التمثيل العربي" عام 1928، والتي انشقت عنها فرقة "أسرة بيروت" كذلك ظهرت فرقة "عبد الحفيظ المحمصاني" الأدبية حيث قدمت على مسرح مدرسة "الفرير" مسرحية "الأمير الشهابي، كما ظهر في طرابلس فرقة اتحاد الممثلين بإشراف "سعدي الحلو" وفرقة الفنون لبرهان ياسين، وفرقة الطليعة، أما منصور وعاصي الرحباني فقد ظهرا في فرقة تمثيلية في إطار"نادي انطلياس الثقافي" وفي الأربعينات من القرن، ومن الملاحظ أن جميع المسميات التي اتخذتها الفرق التمثيلية في تلك الفترة تحوي مضامين وقيماً أخلاقية ووطنية وقومية (المرجع السابق)

وفي النصف الثاني من القرن. وحيث اتخذ المسرح النمط المدروس. احتفظ المسرح منذ عام 1958 بطابعه النهضوي أما المسرح الحديث فقد ظهر بدءاً من عام 1960. وقد اعتمد المسرح النهضوي في طرحه على شخصيات وأحداث تاريخية بإسقاطات معاصرة ذات معاني جديدة في شخصيات الأبطال، وقد تميزت هذه الفترة بانطلاق حركات وتظاهرات ثقافية وإعلامية مختلفة بالإضافة إلى ازدهار الفنون الموسيقية والنشاط المسرحي. كما كان لافتتاح مهرجانات "بعلبك" الدور الكبير في تحفيز نهضة الموسيقى الشعبية اللبنانية والمسرح الغنائي. وقد نشأ المسرح النهضوي في نطاق فئة رجال الإصلاح ودعاة التقدم. أما المسرح الحديث فقد نشأ في نطاق الفئة المثقفة الأنتلجنسيا" أي في أوساط الشعر والفنون الحديثة. وقد تجاوزت هذه الحركة المسرحية مرحلة البناء والتأسيس في عام 1965. حيث بدأ بصياغة اتجاهاته الجديدة بالانعتاق من الموروث. فبدأت الشخصيات على المسرح تتخذ أنماطاً جديدة كالنماذج المنشقة الضدية. والمهتزة أو المجنونة أو المنحرفة أو المتمردة. (المرجع السابق)

كان للأوضاع السياسية والثقافية في لبنان آنذاك على الرغم من سلبياتها، آثاراً إيجابية للمثقفين والمبدعين. فقد شهدت الحياة الثقافية في لبنان منذ أوائل السبعينات ديمقراطية نسبية على مستوى حرية التعبير أو الاعتراض، فعلى الرغم من أن ذوي الاتجاهات الراديكالية لم يتمتعوا بقبول في كوادر وأجهزة الدولة إلا أنهم خارج هذه المؤسسات قد أثبتوا وجودهم وأنشئوا تشكيلاتهم. ولم يكن الإنتاج الثقافي أو الفني آنذاك يتلق دعماً من قبل الحكومة. إلا أنه في الوقت ذاته لم يخترق أو يستوعب من قبل الأنظمة الرسمية للدولة. وقد قامت إنجازات هذه المرحلة بمبادرات الأفراد المبدعين وتضحياتهم. وقد كان الاعتبار الاجتماعي يعلي من أهمية المثقف والمبدع ويحفزه على مواصلة واستمرارية المبادرات كما تميزت الثقافة والفنون في هذه المرحلة بالتعدد والتنوع. نظراً لوجود سبع جامعات بثلاث لغات. وعدد كبير من المعاهد العليا المتخصصة بالفنون. كما نشط المسرح بأربع لغات نظراً لدراسة تخصص المسرح في بلدان أجنبية، فكان للأجواء الثقافية هذه أثرها على حركة المسرح مما جعلها صورة حية ومتفاعلة مع الواقع، وحيث كان الجمهور يعلق آمالاً كبيرة على الشعر والفنون ومن خلالهما يطمح بالتغيير ولا سيما في ميدان المسرح لما يتمتع به من حركة مادية قادرة على إنتاج الحدث بصورة أقرب إلى الواقع، ولذا وجد المسرحيون المناخ الملائم للقيام بدور المحرض على الواقع والفاعل فيه ولا سيما في المسرح السياسي. (المرجع السابق)


مسرح الأخوين رحباني في لبنان

قدم كل من منصور وعاصي الرحباني مع أسرتهما إلى قرية أنطلياس في عام 1938، وحيث بدأ والدهما "حنا" العمل في مطعم صغير، في تلك الفترة ظهر الأب "بولس الأشقر" وكان يبحث عن أعضاء لتأليف جوقة للإنشاء في الكنيسة. وتقدم كل من عاصي ومنصور للأب الأشقر. غير أنه رفض عاصي بسبب صوته، في حين انضم منصور إلى فرقة الإنشاد، إلا أن عاصي قد استمر بالانضمام للجوقة عن بعد وحيث كان يستمع لأناشيدها. ولم يحظى بانضمام فعلي حتى طلب الأب الأشقر من تلامذته أن يقوم أحدهم بشرح نظرية "التتراكورد" في الموسيقى. ولم يتمكن حينها إلا عاصي الرحباني من الإجابة. تلقى الأخوين "رحباني" تعليمهما الأول في مبادئ الموسيقى على يد الأب "بولس" ولم يكن لديهما أي آلات موسيقية حينها. مما كان يظطرهما للتأخر في الكنيسة لممارسة العزف على البيانو والأورغ، وفي أحيان أخرى كانا يستغلان غياب الأب ويعزفا على آلته "البزق"، فقد كان والدهما "حنا" من المحبين للموسيقى وكان يعزف في أوقات فراغه، كان كتاب "الرسالة الشهابية" من أهم الكتب الموسيقية العربية التي درساها على يد الأب الأشقر. كما استطاعا أن يطلعا على مختلف الثقافات الموسيقية، وكانت أولى محاولاتهما في التأليف الموسيقي تلك التي قدماها للأب "الأشقر" في عيد ميلاده. (Fairouz. Com)

ظهرت بوادر الموهبة لدى الأخوين رحباني منذ طفولتهما. فقد بدأ منصور أولى محاولاته الشعرية وهو في سن الثامنة، أما عاصي فقد أسس في الرابعة عشرة من عمره مجلة أطلق عليها اسم "الحرشاية" وكتب فيها أولى محاولاته الشعرية باسم مستعار. وقد استطاع "الرحبانيان" أن يبرزا في مجال الفن في بداية الخمسينات تلك الفترة التي زخرت بوجود عمالقة الغناء العربي ولا سيما في مصر التي كانت حاضنة الفن آنذاك والتي كانت تستقطب المواهب الفنية من الأقطار العربية الأخرى كسوريا ولبنان. وقد شهدت تلك المرحلة أواخر عهود بعض الفنانين الكبار وولادة جيل آخر وحيث برز في بداية القرن ملحنون حاولو إيقاظ الحس الفني الأصيل

بعد الحرب العالمية الأولى وقبيل نهضة الخمسينات، هيمنت على الغناء العربي وبسبب الاستعمار الأوروبي موجة غريبة من الغناء والموسيقى وقد حاول البعض توظيف الاسطوانة الغربية لخدمة الغناء العربي. وبدأ بعض الموسيقيين بمحاولة رفع "التخت" العربي إلى مرحلة الأوركسترا الغربية كما أدخلت آلات جديدة على الفرق الموسيقية مثل الكمان والأكورديون مما أضاف لوناً جديداً في الأغنية العربية. ولذا حاول "الأخوين رحباني" كسر التطريبية التقليدية، فجددا في المضامين والموسيقى، وكانت "فيروز" العنصر الثالث في الصيغة الرحبانية. (الكسان، 1987)

كانت بداية "الأخوين رحباني" في المسرح بمسرحية "حسناء الحجاز" وقد قدماها بالتعاون مع الرابطة الخيرية. وكانت مقتبسة عن رواية "إميل حبش" وقد أدخلا في المسرحية موسيقى تصويرية لـ "ليست" وبعدها كتبا مسرحيتين قصيرتين "إيليا" و "أعمدة الهيكل". كان "الأخوين رحباني" رائدي مهرجانات بعلبك منذ بداياتها عام 1957، فقد جمعا في شخصيتهما موهبة الشعر والتأليف والموسيقى والتأليف المسرحي وتشكل اللوحات الكبرى، وقد ساعدهم في ذلك وجود "فيروز" كعنصر ثالث. اصطبغت مهرجانات بعلبك الدولية بإنتاج وتصوير الحياة لجمعية للأفراد في المسرحيات التي قدمتها. وكانت ذات طبيعة عملية واحتفالية فظهرت فيها أجواء "الموسم" و "العرس" و "الصلح" و "المجالس" وأخذت تتحول من المشهد الغنائي الراقص إلى البنية المسرحية الغنائية المتكاملة بفضل المسرح الرحباني. والذي أخذ بعد عام 1968 بالتحول نحو المسرح السياسي. (سعيد، 1998)

كانت إسهامات الرحبانيين فيما يتعلق بالفلكلور تتجاوب مع الرغبة الشعبية في التغيير. وقد أخذ من معطيات الفلكلور نبراته وإيقاعاته وبعثوا فيه روحاً جديدة ترتبط مع آمال وطموحات الواقع المعاش. فكان عملهما على الفلكلور يرتدي طابع المستقبل بالماضي. (الكسان، 1987)

وحول توظيف الرحبانيين للتاريخ وفي لقاء صحفي في "بيان الثقافة" بصدد عمله الأخير "المتنبي" يقول منصور رحباني أنه لا يقصد بتناوله الأحداث التاريخية أن يسقط القديم على المعاصر. فالتاريخ يتكرر كله أو بعضه.(albayan. Co.ae)

كان لتعرف الرحبانيين إلى "نهاد حداد" فيروز، "كما أسماها حليم الرومي آنذاك نقطة تحول في المسيرة الرحبانية. وقد كانت تعمل مع فرقة فليفل التي تقدم الأناشيد الوطنية. وقد شعر الرحبانيان بأنه لا بد أن يكون للبنان موسيقى خاصة فكانت الموسيقى الدارجة "التانغو" و "الجاز" و "السلو" و "البولرو" فأصبحا يأخذا مقاطع الموسيقى الدارجة بتوزيع جديد وكلام لبناني، فكانت "نحنا والقمر جيران" من نمط اللون اللبناني الراقص و "ما يله عالغصن" من النمط الفلكلوري على إيقاع راقص، وكذلك "البنت الشلبية" وكما كتبا القصيدة المغناة التي لا تتجاوز دقائق مثل "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب" وقد اهتما بالموشح في حين كاد أن ينتهي. وأخذا يضعا له توزيعاً موسيقياً جديداً ومنها "لما بدا يتثنى". يقول منصور الربحاني في لقاء أجرته معه مجلة الصياد "عدد 27/ حزيران 1986" أن الكلمة لديهما سابقة على الموسيقى، والأغنية لديهما كانت تبدأ من جو .. من فكرة.. من لقطة من مشهد أو فيض لا أعرف.. كنا نفتش عن الدهشة والغرابة في الفن.. الغرابة في الأوزان.. ولأننا تعمقنا في دراسة الموسيقى الشرقية.. ودرسنا التأليف الموسيقي الغربي لمدة تسع سنوات. فنحن على علاقة وثيقة بالنمطين.. نحن أبناء محيطنا.. والموسيقى في كل الكون تأتلف لتدخل روح الفنان وتعطيه عمقاً وشفافية. (الكسان، 1987)

في المسرح اتخذ الرحبانيان مسار الصراع بين قوى الخير والشر الذي ينتهي بانتصار قيم التآلف، والوحدة والحرية وينتهي الانتصار عل شكل حفل غنائي يتخذ شكل العيد بمشهد غنائي حركي تستدعى فيه مخزونات الذاكرة. (سعيد، 1998)

فيما يتعلق بأعمال الرحبانيين، فقد بدأت الفكرة منذ عام 1965 حيث اقترح عليهما صديقهما "راجي الشوربجي" العمل في السينما، وبعد استشارة "كمال التلمساني" بدء العمل للسينما وكان أول أعمالهما هو تحويل مسرحية "بياع الخواتم" إلى فيلم سينمائي، وكان ذلك بعد مقابلة "يوسف شاهين" لهما حيث قدم من مصر آنذاك واتفق معهما على إخراج الفيلم وبعد هذا الفيلم كان فيلم "سفر برلك" و "بنت الحارس" وكانا من إخراج هنري بركات. (Fairouz. Com)

قدم "الرحبانيان" مسرحية "عرس في القرية" في مهرجان بعلبك عام 1957 كما قدما "موسم العز" عام 1960 وكانت من بطولة "صباح" كما قدمت على مسرح دمشق الدولي. وبعد تشكيل "الفرقة الشعبية اللبنانية" عام 1961 قدموا مسرحية "البعلبكية" ثم "جسر القمر" عام 1962. ومسرحية "الليل والقنديل" عام 1963، أما دواليب الهوا فكانت عام 1964، وكانت من بطولة صباح ونصري شمس الدين، وفي عام 1965 مسرحية "بياع الخواتم" وفي عام 1966 مسرحية "أيام فخر الدين، أما مسرحية "هالة والملك" فكانت في عام 1963، مسرحية "الشخص" كانت في عام 1968، وقد كانت جميع المسرحيات باستثناء "دواليب الهوا" و "موسم العز" من بطولة فيروز وقد عرضت هذه المسرحيات على مسرح قصر البيكاديللي، ومهرجانات الأرز. ومعرض دمشق الدولي، وفي عام 1968 وبعد نكسة حزيران قدم "الرحبانيين" مسرحية "الشخص" ومسرحية "جبال الصوان" كانت الأولى بمثابة "عريضة احتجاج"، وجاءت سافرة، وناقدة لنظام الدولة أما "جبال الصوان" فتروي قصة الأرض المغتصبة والموت دونها بشخص غربة "فيروز" وموتها على أبوابها، وفي عام 1970 قدما مسرحية "يعيش ، يعيش" وهي امتداداً لمسرحية الشخص من حيث المضمون، وقد قدمت على مسرح قصر البيكاديللي. كما كانت شخصيات أعمالهم من النمط، القروي البسيط "حنا السكران" و "المختار" و "راجح" و "هولو"، كانت هذه الشخصيات مأخوذة من الواقع اليومي وتلتقي مع شخصية الإنسان في المطلق، وفي رؤيتهم لمفهوم "الوطن" فقد تجاهلوا التفاصيل الصغيرة ليعالجوا المفهوم بمعنى شمولي أكبر، ونقلاً عن عاصي الرحباني في لقاء مع مجلة الموقف العربي "عدد 6/2/86 بأن التربية الشعبية التي نشأ عليها كانت ذات أثر في توجههما نحو دراسة وتطوير الفلكلور الشعبي، وقد كان للحكايات والأساطير الشعبية التي كانا يسمعانها من جدتهما خلال فترة الحرب العالمية الأولى أثراً في سعة خيالهما فيما يتعلق بالتراث والأسطورة. (الكسان، 1987)

لم يتجه "الرحبانيان" في مسرحهما إلى طرح حلول وعظية مباشرة فقد انطلقوا من المحدود إلى اللامحدود، فكان مسرحهم الغنائي الشامل يمثل صوت المظلوم أمام الظالم وصوت الحرية أما سالبيها، ولم يتجهوا نحو الثورة على النظام بل اتجهوا نحو خلق حالة توفيقية يرتدع فيها الحاكم عن أخطائه

وكان الحب وحده في معظم مسرحياتهم هو السبب في حل العقدة والمشكلات وإنهاء الصراع ففي مسرحية "الليل والقنديل" كان حب "هولو" قاطع الطريق لـ "منتوره" هو السبب في تقبله للهزيمة وإعادته القنديل للجبل. (المرجع السابق)

نستخلص من المسيرة الرحبانية أن "الأخوين رحباني" قد اتجها في طرح موضوعاتهما الفنية إلى البيئة الاجتماعية الشعبية أو الفلكلورية

وقد كانت هذه البيئة مرتكزاً للمادة الجمالية في تقديم الأغنيات بطابع فلكلوري جديد، كما كانت بمعطياتها الثقافية والإنسانية تشكل مادة الموضوعات التي عالجاها في المسرحيات، وبدلالات معاصرة على تواصل مع هموم المواطن اللبناني ومن هنا جاء توجه "الأخوين رحباني" نحو المسرح السياسي قبيل أزمة منتصف السبعينات التي بدت إماراتها بالظهور قبل وقوع الحرب الأهلية بسنوات، ولضرورة ربط المادة المسرحية لديهما بالواقع السياسي والاجتماعي أتطرق في الموضوع التالي إلى وضع لبنان في تلك الفترة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً


المجتمع اللبناني قبيل أزمة "1975"

لم تكن الحروب الأهلية التي شهدتها لبنان بدءاً من خلافات الحرب الأهلية 1958، سوى مخلفات استعمارية، أرست جذورها الدولة العثمانية، وعمل الاستعمار الفرنسي على تكريسها فيما بعد بصياغة دستور عام 1926، والمتعلق بإعلان المفوض السامي (هنري دي جوفنيل) جمهورية لبنان بدلاً من لبنان الكبير، وتقسيمه إلى مناطق محددة جغرافياً فحتى نهاية الحرب العالمية الأولى كان لبنان ولاية تابعة للدولة العثمانية، حيث عملت على تقسيمه إلى طائفتين أحدهما في الشمال للمسيحيين، والثانية في الجنوب للدروز وقد أدى النزاع الطائفي إلى مذابح دامية بين الموازنة والدروز، ولم تنته النزاعات بانتهاء حكم الدولة العثمانية مع نهاية الحرب. ففي عام 1918 ومع احتلال الجيوش الفرنسية للبنان بدأت حقبة أخرى من الصراعات المتمثلة بالحروب الأهلية. (فؤاد، 1985)

وظل لبنان بعد انتهاء الحرب العربية الإسرائيلية "48" وبعد اتفاقية الهدنة مع إسرائيل عام "1949" عنصراً محايداً إزاء الصراع العربي الإسرائيلي وقد عززت إسرائيل هذا الحياد بهدف إضعاف لبنان كعنصر مساند للدول العربية في نزاعها معها، ولضمان ضعفها في تحجيم المطامع الإسرائيلية وقد اتخذت من أجل هذه الأهداف سياسة ترمي إلى دعم القوى اللبنانية المعارضة لنمو الخط العربي المعارض للصهيونية من جهة ومن جهة أخرى عملت على تأجيج الصراعات الطائفية والذي بلغ أوجه في الحرب الأهلية سنة 58. أما أولى الخطوات العملية في تهديداتها للبنان في 29/10/65 بأعمال تفجير وتخريب على الحدود اللبنانية، وذلك إثر موافقة مجلس النواب اللبناني على دخول قوات عربية للبنان لحماية عملية تحويل مجرى نهر الحاصباني منعاً لاستفادة إسرائيل من مياهه، وقد توالت الاعتداءات الإسرائيلية في السنوات التي تلتها، أما بعد عام 1976، فقد تفككت الوحدات الحدودية الجنوبية، فالتحقت بثلاث جهات، هي. القوى الوطنية اللبنانية التي انضمت إلى قوات الثورة الفلسطينية، وجيش لبنان الحر بمساندة إسرائيل، والجيش اللبناني. (طلاس، 1983)

بعد معركة الكرامة سنة 1968 بدأ الوجود الفلسطيني يتركز في جنوب لبنان وانضم إليهم ثوريون عرب ووطنيون، ويساريون لبنانيون وفي حرب حزيران/ يونيو 1967 كانت سماء لبنان مسرحاً لحركة الطيران الإسرائيلي الحربي باتجاه سورية واحتلت قرية شبعا ومساحات من الهضاب الجنوبية والغربية لجبل الشيخ، وفي تشرين ثاني 1969، أذعن النظام اللبناني للضغوطات ووقع مع منظمة التحرير الفلسطينية "اتفاق القاهرة" لتنظيم وجود المقاومة الفلسطينية وقد نص الاتفاق على حق العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين المقيمين في لبنان والإفراج عن الأسلحة المصادرة والمعتقلين وبعد تصفية وجودهم في الأردن "70-71" تحول الجنوب في المنتصف الأول من السبعينات إلى ساحة قتال. وقد كانت أبرز أحداث تلك الفترة الاجتياح الواسع للقطاعين الأوسط والشرقي في الجنوب 25/ شباط 1972، في موجة من الرسائل والسيارات المفخخة نحو شخصيات وسيارات فلسطينية، وفي السادس والسابع عشر من أيلول أغارت إسرائيل بطائراتها الحربية وكانت حصيلتها 95 شهيداً بين مدني وعسكري. وفي 21/2/1973 شنت إسرائيل هجوماً بحرياً على مخيمي نهر البارد والبداوي في الشمال، وقد استمرت الاعتداءات الإسرائيلية وتتوجت بوقوع اشتباكات بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية في نيسان وأيار من عام "1973". وقد شهدت سنوات 1968-1974. وقوع اعتداءات إسرائيلية 3000 اعتداء إسرائيلي. وقد دمرت قرية شوبا اللبنانية في كانون ثاني 1975 وبعد تحولها إلى مركز فعال لنشاط المقاومة الفلسطينية. (سويد، 1998)

كان لتأسيس المقاومة الفلسطينية وفصائلها في لبنان ردة فعل لدى إسرائيل مما جعلها تحبك المؤامرات لضرب المقاومة داخل لبنان، وقد كان مسعى إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة هو استنزاف أي مقاومة عربية محتملة وكانوا يرون في الحرب الأهلية اللبنانية منفذاً للشقاق العربي وإرهاق الدول العربية مادياً وعسكرياً وبشرياً، فكان التهجير أحد نتائج الحرب الأهلية وكان هدفاً بحد ذاته يحول دون تحقيق أهداف اقتصادية وعسكرية متكاملة، كما أن إشعال الطائفية وخلق دويلاتها من شأنه أن يستنزف أي مقدمات لقوة اقتصادية أو عسكرية محتملة في لبنان وسوريا والعراق. (غلمية، 1976)

وبعد اندلاع الحرب الأهلية في الثالث عشر من نيسان "1975" أخذت إسرائيل تساعد في قيام مجموعات مؤلفة من جنود وضباط منشقين عن الجيش اللبناني وكانت يطلق عليها اسم قرى المنشأ وتمركزت في المنطقة المحاذية لإسرائيل، واستولت على أسلحة من ثكنات الجيش اللبناني وكانت بقيادة الرائد سعد حداد. وتمكن في خريف 76 من السيطرة على جيبين منفصلين في الجنوب الأول: في قضاء "بنت جبيل" والثاني في قضاء "مرجعيون". (سويد، 1998)

إلى جانب التدخلات السياسية في لبنان، وكما يرى بعض الكتاب العرب ومنهم حسنين هيكل، أن موقف الدول العربية من النزاعات داخل لبنان قد أدى إلى إشعال فتيل الحروب الأهلية فيها، وحيث كان ضعف الحكام في لبنان المناخ الملائم لبعض الدول في التدخل لإذكاء الحرب خدمة لمصالحها ومصالح إسرائيل والتي تمثلت مصالحها الخاصة في خوفها من انتقال عدوى الحريات الفكرية التي يتمتع بها الصحف والشعب اللبناني آنذاك. كما أنها كانت ترغب بتحطيم المقاومة الفلسطينية باختلاف أحزابها ومنظماتها لأن ذلك يوفر عليها عبء تحمل القضية الفلسطينية وما تجلبه من مشكلات للدول العربية في موقفها من إسرائيل. ولتتخلص من دفع المبالغ للمنظمات الفلسطينية. وسواء كانت أسباب هذا الموقف الداعم للدمار هي الخلافات العقائدية أو ضرب المقاومة الفلسطينية، أو بسبب الخوف من انتقال الحرية الزائدة من لبنان، فقد عملت في كل حالاتها على تفجير الأزمة وإطالة عمرها. (غلمية، 1976)

يتجه بعض المنظرين ذوي الاتجاهات السياسية إلى القول بأن تعدد الإثنيات والحضارات كانت السبب في عدم تجانس المجتمع اللبناني وفي استنفار صراعاته، غير أن مثل هذه الطروحات لم تبنى على أسس علمية. وقد شككت بعض الدراسات الاجتماعية بمصداقيتها، فالانقسامات التي يعاني منها المجتمع اللبناني ما هي إلا مظهرا من مظاهر الانقسامات العشائرية داخل الطائفة ذاتها وهي تكاد تكون موروثا اجتماعيا يتعلق بثقافة المجتمع العربي عموما. بفعل عوامل تاريخية وثقافية وجغرافية مختلفة، فدراسة "كرسويل" لقرية "بقسيما" "المارونية" التي لاحظ فيها انقسام القرية إلى فريقين قد يدعم هذا التوجه في التفسير، ويغلب على مثل هذا النوع من الصراعات وجود جهود دخيلة تحاول الإبقاء على الانضمام لفريق منتصر يعمل على خلق حالة من التوازن. وخاصة في الأحياء الصغيرة. وتتجلى صورة هذا النوع من الصراع بين أعرق حاضرتين للموارنة هما بشرى وزغرتا بين العائلات من جهة وبين المدينتين من جهة أخرى. (خليفة، 1985)

عانى المجتمع اللبناني من مشكلات داخلية كثيرة كانت بمثابة الأسباب غير المباشرة لاشتعال حروبها الأهلية، مثل مشكلة الطائفية التي كان أحد مظاهرها الاهتمام بمصلحة الفرد على حساب المصلحة الوطنية. كما أدت إلى انقسامات أيديولوجية وسياسية وجزئية ومسلكية. أما مشكلة الحرمان فتمثلت بالفقر والنقص في الطرقات والمدارس والمستشفيات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. مما تسبب في نمو الطبقية وعدم المساواة بين المواطنين، وقد أدى شعور الفئات المحرومة بالنقمة تجاه الطبقات الميسورة إلى تفاقم أسباب الحرب الأهلية 1975. كما أن فساد المؤسسات قد عمل على إضعاف ثقة المواطنين بالدولة وزاد حجم الثغرة بين المواطن والدولة، مما أدى إلى بروز ظواهر السرقة والخوة والقرصنة والاستبداد والرشوة. فعندما يفقد المواطن إمكانية الحوار مع الدولة يتجه لأخذ حقوقه بالقوة أو بالرشوة فتصبح الغش والسرقة والتحايل وسائل المواطن من أجل تحيق غاياته

كما كان عجز الدولة عن تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين من أسباب تفاقم المشكلة اللبنانية كغلاء السكن والمعيشة ومشكلات الأمن والتأمين الصحي ومشكلة عدم وجود التعليم المجاني الكافي بالإضافة إلى مشكلة البطالة. كما ساعدت عوامل كثيرة في فساد النظام التربوي كالتناقض في المذاهب التربوية وفشل المحاولات في توحيدها في شتى المدارس نتيجة لضغوطات وتدخلات الأجانب ورجال الدين على اختلافهم، بالإضافة إلى وجود المدارس الإرسالية والطائفة والتي ساعدت في انسلاخ المواطن اللبناني عن هويته الوطنية. كذلك عانى المجتمع اللبناني من مشكلة المحسوبية لصالح عائلات الطبقة الحاكمة والتي احترفت فيما بعد وسائل الرشوة والعمولة لتأمين مصالحها الفردية ومما أثار نقمة وصراعية الجماهير ذات المطالب الشرعية. فمعظم الحكام الذين تناوبوا على رئاسة لبنان، قد سخروا ثروات الدولة لخدمة أقربائهم وذويهم مما عمل على إضعاف هيبة الدولة وموظفيها وقد انتقلت عدوى الرشوى والمحسوبية من كبار الحكام إلى كل طبقات الموظفين العاملين في مؤسسات الدولة. (غلمية، 1976)

كان للحرب الأهلية مقدمات عملت كل منها على إضافة خطوة نحو الجحيم. تمثلت بغياب الأيديولوجيا المشتركة بالنسبة للطوائف المختلفة وقد أدى هذا العامل فيما بعد إلى انقسام البلاد إلى شطرين اليمين ومعه الجبهة اللبنانية، واليسار ومعه الحركة الوطنية. وقد كان الحماس الذي يميز الحركات الجماهيرية وكان مدفوعاً بدافع الانتماء الأيديولوجي الخاص بالفئة ولم يكن الانقسام قائماً على أساس ديني. بل جاء التناحر على الأساس الطائفي "الديني" كنتيجة للانقسامات الأيديولوجية مما دفع البعض من المسيحيين والمسلمين للانسحاب من تياري اليسار واليمين ليمارسوا الصراعات على أسس دينية. بين المسيحيين والمسلمين، وقد كان لاختفاء سلطة وهيبة الدولة وانهيار البنى التحتية التي تكفل القانون والأمن الأثر المباشر في توجه المواطن للانتماء للطائفة الدينية بهدف استبدالها بسلطة الدولة. مما أدى فيما بعد إلى تطرف هذه الحركات. وانسداد قنوات الحوار بينها مما مهد الطريق أمام لغة السلاح. وفي لحظات الخطر غالباً ما كان المسلمون يهرعون إلى المسجد والمسيحيون إلى الكنيسة ولهذا تفسيره ضمن مفهوم المقدس بالنسبة للفرد كونه جزء من الدين. أما دوافع هذا الهروب فهي تتلخص برغبة الفرد في إلغاء الآخر كون المقدس لا يقبل الاختلاف ولا التناقض ولا الجسم الغريب. وفي مرحلة متقدمة من الصراع ينتقل الاقتتال إلى داخل الطائفة ذاتها. وباستدعاء أحداث من الماضي، أما غياب القادة بموتهم أو اختفائهم فيكون الجو الملائم لظهور قادة جدد يتسببون بنوع من البلبلة والاضطرابات داخل الطائفة. فتتحول من حرب طوائف إلى حرب مذاهب، وبما أن العائلة الواحدة قد تتوزع جماعاتها إلى انتماءات مختلفة فإن ذلك من شأنه أن ينقل الخلاف والتنازع إلى خلية العائلة. (حب الله، 1988)

اتسمت معظم التحليلات التي حاول أصحابها تفسير الأزمة اللبنانية بثغرات منها أنها لم تنطلق من المجتمع المحلي اللبناني، بل حاولت تطبيق بعض النظريات الأيديولوجية على المجتمع اللبناني، ولعل العامل الذي لا يمكن إغفاله والذي قد يفسر به فائض العنف في الحرب الأهلية هو التمجيد الإعلامي لمفهوم البندقية والقتل والذي ابتدأ منذ عام "1952". (زعتر، 1986)



اعداد وكتابة: ميساء القرعان

التسميات: , , , ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية