2021/02/11

تاريخ الفن المسرحي










تمهيد

تتجلى إحدى وظائف الفن في إعادة تصوير الحياة وتفسيرها من منظور مختلف قد لا يكون متاحاً في حالة الإخبار المباشر عن معطيات الواقع. فالفنان أو الشاعر قد يعمدا إلى استبعاد غير الجوهري في موضوعاتهما ليركزا على ما هو أهم بالنسبة للإنسان ليعيدا له تصويره وتفسيره. وعلى الرغم من عجز الفن أو الأدب عن الإحاطة بكل موضوعات الواقع الاجتماعي إلا أن الفن قد يتفوق على الواقع ذاته في قدرته على تفسير أحداثه وتشكيل موقف الإنسان منها. ويكمن وجه الشبه بين الحديث في الحياة الواقعية وبين الحدث في العمل الفني في الشكل فقط. لأن مضمون الحدث عندما يكون جزءاً من عمل فني إنما يرتبط بالسياق الذي يظهر فيه والذي يمنحه معنى وتفسيراً خاصين "تشرتيشفسكي، 1983"

ويلتقي هذا التوجه لدى تشرتيشفسكي في اعتباره الفن أداة من أدوات التفاعل مع الواقع التي تعيد تفسيره. وتضفي عليه معنى مختلفاً مع طرح "دوفنيو" الذي يفترض فيه أن المعرفة الفنية لدى الفنان أو الأديب تتجاوز الأطر المحدودة للصراعات والمشكلات الاجتماعية ولذا فالفنان لا يعكس معرفة أكاديمية لبيئة معينة، كما أنه ليس بإمكانه أن يصور واقعا اجتماعيا كليا بالاستناد إلى تجربته وردود أفعاله الخاصة . (دوفينيو، 1983)

نستنتج من هذا الطرح أن الفنان أو الأديب قد يسقطا من أعمالهما أحداثا أو تفاصيلاً معينة وقد يعمدا إلى ابتداع أحداث بديلة تخدم الفكرة التي يتجهان إلى جمهورهما من خلالها

وكما يسقط الفنان من حساباته أيضاً التقدير الأخلاقي للأفعال حيث يكون التقدير الأخلاقي هنا بدون جدوى لأن التوجه في العمل الفني أو الأدبي يكون نحو تحليل دوافع السلوك النفسية بعيداً عن تقييمها. كما أن المشاهد عندما يسقط نفسه في العمل المسرحي يكون تأثره بالعمل أشد عندما يمثل لذاته فرداً من جماعة اجتماعية. وتتوقف مسألة عرض الإنسان بصورة منفردة على خشبة المسرح أو بكونه ممثلاً لطبقة معينة على الموقف الاجتماعي والغايات السياسية للمدافعين عن الثقافة ضمن الظرف الزمني الخاص. وليست الطبقية بحد ذاتها دافعاً لتوجه الفن نحو عرض الإنسان بصورة تعكس ملامح الطبقة التي ينتمي إليها. وإنما يعتمد ذلك على درجة الوعي المتعلق بظاهرة الطبقية وما تعززه من شعور بالتوحد لدى الجماعات وفي ورغبتها في إبراز الاختلاف وتأكيده . (هاوزر، 1971)

وهكذا يتضح من طرح هاورز السابق أن الوعي بوجود الطبقية على مستوى الجمهور المشاهد للعمل الفني هي أحد عوامل انجذابه للعمل الفني الذي يكون فيه الفرد ممثلاً لصورة طبقية ما

أما "بليخانوف" فيربط بين تقنية المجتمع واقتصاده من جهة وبين الفن الذي يظهر فيه، من جهة أخرى وذلك من خلال تحليله للفن الفرنسي في القرن الثامن عشر، حيث كان المجتمع الفرنسي آنذاك مقسماً إلى طبقات مما أثر على تطور الفن، ولذا تميز المسرح في هذه الفترة بطابع التهريج الذي يعكس موقف الحاقدين على أصحاب الامتيازات. (بليخانوف، 1977)

وقد يتفق طرح بليخانوف - إذا ما استنتجنا منه إحدى وظائف الفن بالنسبة للطبقات المسحوقة - مع النتيجة التي خلص إليها شوبنهاور والتي مفادها أن وظيفة الفن تكمن في تحرير الفنان ومساعدته على التخلص من عبودية الواقع. كما أنه يلعب دور المسكن بالنسبة للفنان والجمهور المتلقي في تفاعلهم مع هموم الواقع، فهو يخلصهم من آلام ومعاناة الحياة اليومية ويدفعهم للتفاؤل. (عمر، 2000)

ويربط كل من "ماركس" و "انجلز" بين الفن وبين الصراع الطبقي، ويريان أن الفن جزء من الصراع ذاته، وقد أشارا إلى مفهوم الاستقلال النسبي في النشاط الفكري للناس فيما يتعلق بموضوعات الأدب والفن ومن هنا تتضح رؤيتهما في تبادلية التأثير بين القاعدة "الاقتصاد" وبين البناء الفوقي، فالتطور السياسي والحقوقي والفلسفي والديني والأدبي والفني كلها تقوم كلها على أساس التطور الاقتصادي، كما لم يربط ماركس بين التطور الإيجابي للمجتمع وبين التقدم في الفنون إذ أن بعض أشكال الفن لا تظهر إلا في المراحل الدنيا من التطور الاجتماعي. (نوفا، 1975)

وأما فيما يتعلق بالفن المسرحي وعلاقته بدرجة استقرار المجتمع، فيذهب دوفينيو إلى أن عدم الاستقرار في المجتمعات يعمل على تحفيز الطاقات الفنية كما أنه يستند إلى تفسير "دور كهايم" للتغييرات التي ظهرت ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر في أوروبا والتي هدفت إلى إقامة الملكيات المطلقة وتنامي العقليات الجديدة، وبين طبيعة المسرح في تلك الحقبة بحيث يرى دور كهايم أنه ما تغير البنى الاجتماعية، تضعف السلطة في النظام الاجتماعي ويتغلب في مرحلة التأجج على التوازن. وتصغر قيمة المثل العليا، ومع ضعف رقابة الأحكام المقررة تصل إلى حد من الجموح ولذا يرى "دوفينو" أن ظهور موضوع الجريمة أو كل عمل غير سوي يفرض نفسه في هذا العهد عل مشاهد المسرح، ويميز بينها وبين صورة الإجرام التي ظهرت في العهد السابق أو المسرحيات الدينية "Scrametales" حيث كانت صورة المجرم تبدو بأسلوب يظهر طابعها الشرير ذا القيمة الاجتماعية التي تفرض نوعاً من عدم التوازن في القيم فقد ظهرت صورة المجرم بأسلوب تؤكد فيه على إجرامها أو تطرفها بنوع من الرضى المتعصب. (دوفينو، 1965)


الفن المسرحي تاريخياً

ظهر الفن المسرحي منذ القدم في المجتمعات البدائية في الطقوس والعادات واللوحات الدينية. فتحولت فيما بعد إلى عروض مسرحية غنية بفلكلور الشعوب، وقد ساعد تطور الفنون الأخرى تطور العروض المسرحية فأصبحت فنون الرقص والموسيقى من العناصر الهامة في المسرح. ويرتبط المسرح تاريخياً بالدين. فقد تزامن ظهور كليهما في المجتمعات، وعلى الرغم من التعارض المنطقي المفترض بين كل من المسرح ذو الجوهر الديمقراطي والمرن وبين الدين وماله من تأثير في تحجيم الحيوية العقلية لدى الإنسان. إلا أن الطقوس الدينية ذاتها قد مهدت وساعدت في ظهور وتطور المسرح، فقد كان مسرح الأقنعة في اليابان والصين والهند وبورما يرتبط بالتقديس الديني للأجداد. (يوتنستيفا، 1990)

إن المسرح فن يتجاوز التاريخ الذي يبدأ "بإسخيليوس" Eschyle وشكسبير، ومولير، لأنه من بين الفنون جميعها الأكثر التزاماً بالتجربة الجمعية للشعوب، فهو إحدى الظواهر الاجتماعية، كما أن تمثيل الأدوار الاجتماعية على المسرح تستثير في الجمهور رفضاً أو قبولاً أو مشاركة يتميز بها هذا الفن عن بقية الفنون، وتتجلى وظيفة المسرح في كشفه عن الذات الإنسانية بما يعتريها من آمال أو قلق وهموم لكي يستطيع الإنسان الاتصال بالآخرين بنوع من الشعور بالتآزر، غير أن هنالك صوراً للمسرح تظهر بصورتها التلقائية لدى المجتمعات. فالأعياد التي ترافق الكولا Kula في جزر المحيط الهادي الشمالي من صورها، وتتجه الجماعات إلى مثل هذا النوع من الرقص والاحتفالات الرسمية في المجتمعات الأكثر حداثة وتعكس صوراً ووظائف مشابهة، مثل حفلات الدفن الرسمية وبعض الأعياد المدنية التي تخدم عرضاً سياسياً، وكذلك القداس وأعياد الأسرة أو الحي هي أعمال تشخيصية. فرغبة الجماعات في تأكيد وجودها يجعلها تستعين بالمسرح. (دوفينو، 1965)

ولقد عرفت الشعوب القديمة فن المسرح، فقد عرفه قدماء المصريين والعرب القدامى، ولم يكن المسرح آنذاك فن تمثيل، بقدر ما هو فن تشخيص وقد كان ذلك من خلال الأساطير والشعائر والعادات والديانات، لكن ذلك المضمون للفن المسرحي لم يتخذ الصورة أو القالب الذي يجعل منه "فن مسرح" إلا لدى الإغريق القدامى، وقد أخذ عنهم العالم الأوروبي الحديث أصول هذا الفن، ولم تتخذ المسرحية صورتها الفنية لدى اليونان إلا بعد تطور فن الشعر الغنائي، ومن الشعر الملحمي واللذين أنتجا فيما بعد الشعر التمثيلي الذي تحول فيما بعد إلى صورة المسرحية. (العشري، 1991)

يتجه كثير من المؤرخين للفن المسرحي إلى ربط نشوء المسرح بالدين وإلى بحث علاقة ارتباط نشأتها لدى المجتمعات

وقد كان نشوء المسرح الديني والفلسفي نتيجة محاولة المجتمع تمثل التجربة الميتافيزيقية عن طريق التجسيد الحركي، وبما أن النظام الاجتماعي آنذاك كان تجسيداً للنظام الديني فقد كانت المسرحيات تخلط الواقع الدنيوي بالشخصيات والقصص الديني، ولكن بعد حركة الاكتشافات والتفسيرات العلمية وانفصال الدين عن الدنيا، فقد أصبحت الدراما موضوعاً للتنظير وأخذ المسرح بالانسحاب عن عامة الشعب نحو الجمهور الخاص. وهذا يتطلب نوعاً من التقاليد والقواعد المسرحية الجديدة، ولذا فقد تميزت حركة المسرح في أوروبا منذ القرن السابع عشر بتقوقع الدراما داخل دور عرض محدودة ولجمهور معين يمثل أقلية، إلى جانب ذلك أًصبح الجانب التنظيري أكثر حضوراً بهدف خلق الدراما المناسبة للجمهور المهتم مع التركيز على ضرورة التزام المسرح بالقواعد الكلاسيكية. وبما أن جمهور الصفوة هو الجمهور الذي ساند التيار الكلاسيكي المحافظ في المسرح فقد اتجه أصحاب المسرح الكلاسيكي إلى الاهتمام الخاص بما يرضي ذوق ومصالح هذه الطبقة، وفي فترة لاحقة ظهر مسرح الثورة الرومانسية مستنداً إلى المسرح "الاليزابيثي" في إنجلترا، والذي كان شكسبير من رواده إلا أن المسرح الرومانسي لم يستطع رغم محاولته أن يحتذي بالمسرح الاليزابيثي. ولذا لم يفلح في التفاعل الحي والمستمر مع الجماهير العريضة، ولم يكن لديه المرونة والتغيير اللازمين، مما جعله يتقوقع ضمن رؤية فردة خاصة بعيدة عن معطيات الواقع. (صليحة، 1986)



اعداد وكتابة: ميساء القرعان

التسميات: , , , ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية